تأملات مسائية
ضوضاء جلجلت المكان لتفقد الطبيعة هيبتها. أصوات أطفال يتدافعون من باب بناية متصدعة، أجساد طرية وشم الفقر صفحاتها، وجوه وديعة أنهكها البؤس، كانت ملابسهم ذات ألوان فاقعة تثير في النفس رغبة في التقيؤ حملوا على ظهورهم كتبا احتوتها أكياس بلاستيكية أو محفظات ممزقة، نافثين في الهواء كلمات بربرية أشبه بطلاسم يعبث بها الريح لتتلاشى فى الأفق، أجساد آدمية تهرول كأنها حملان تلتمس النجاة من شبح الضياع بالعثور على أمهاتها.
الأصوات أخدت تخفت إلى أن عم صمت رهيب بتر حبال الضجة...جبال تتراءى على مرمى البصر شاقة عباب السماء،كأنها أمواج يم نالت منه لعنة الآلهة لتستحيل مياهه إلى صخور صلصالية ناتئة.
في خضم هذا الصمت، حمل النسيم وقع أقدام خافت ليكشف عن شبح آدمي يسير الهويناء، خرج من حيث خرج الأطفال، توقف عن السير ، التهم المكان بعينيه الحادتين، تنهد ثم جلس مفترشا التراب و ملتحفا ضفائر الأصيل الصهباء، أرهف السمع فإذا به يسمع سمفونية أبدعتها الجبال بمداعبتها لذرات النسيم. أخدت الأفكار و الذكريات تتدافع في رأسه فارضة نفسها عليه بإلحاح، فأطلق العنان لذاكرته ...
...فسمع ضحكات عذبة لرضيع وديع انصهر الورد ليسكب علي وجنتيه الناعمتين لونا زهريا أخادا ، رضيع شع النور من صفحات وجهه لينير مهده القطني الأثير ، مولود تعالت ضحكاته بمداعبته للملا ئكة ، إنه هو...إنه وحيد عندما كان رضيعا...صدقت ذاك أنا دائما وحيد حتى عندما كنت طافحا بالسعادة في تلك اللحظة كان يخامرني شعور بالوحدة. مرت سنوات استحالت معها صورتي إلى تلميذ مجد يصارع لإثباث نفسه أمام نفسه.
ما زلت أذكر نظرات زملائي في الصف و أنا أتصدر لائحة المتفوقين، حينها كنت أرشق بنظرات شزراء تخترقني تفتت جسدي إلى ذرات تتيه في اللامحدود... توالت السنوات لتتوالى فيها نجاحاتي و لتزداد فيها ثقتي بنفسي، الثقة التي افتقدتها منذ أمد بعيد في هذا المكان و أمام هذه الجبال الساخرة، اعتدت التفوق لينتهي بي الأمر هنا كمدرس في هذه المدرسة الشبح...هه... مدرسة النور
اسم دون مسمى، إنها أقرب ما تكون إلى بيت من بيوتات فلسطين نفث القذرون صنوفا من سمومهم عليه ليصير رسما لا تحجه إلا الأطياف، نوافذ مكسرة، أبواب منزوعة، جدران متداعية، و طلاء أظمأه الدهر ليصير شاحبا يتمنى الإنعتاق، آه يا مدرسة النور لم أرى كل هذه العيوب قبل عشر سنوات، أذكر كيف رأيتك أول مرة، كما أذكر كيف اتخدت أحد القسمين اللذين يكونانك مسكنا يقاسمني أفراح الدهر وتباريح المعاناة، و ها أنا اليوم أرمقك ولا أتبين غير السواد
يقولون أني مدرس...هه.. يا للسخافة...مدرس ؟ مدرس ماذا ؟ و أدرس من؟ تلاميذ يعدون على رؤوس الأصابع، لا أراهم إلا كما ترى أرض الجليد الشمس، روائحهم تزكم الأنوف... في هذا المكان أعيش خارج المدنية، خارج الحضارة،وكأنني في عصور ماقبل التاريخ، لم تخدش هنا الطبيعة إلا من هذا الشيء الذي يسمونه مدرسة و من هذه القرية القابعة على سفح هذه الجبال.
بيوتات طينية مبعثرة كأنها شظايا جرة مهشمة، كنت أطمح لأفضل من هذا لكن ما عساي أصنع ؟
أصفاد الحاجة والإلحاح جعلتني عبدا لهذا المكان، لهذه المهنة ولهذا البؤس، لطالما رغبت في إتمام دراستي بالجامعة لكنني على الدوام كنت أصدم برغبات أنانية...فتح لخوتك الباب، براكة عليك من القراية، مالين الكلية طفروه... ياك قراو حتى ولا فيهم الشيب لزرق وراهم تيدورو فزناقي...
نعم فتحت عيناي على مجتمع نهشت البطالة أوصاله حتى صار ينظر للمعلم كوزير ، أنا لا أسعى إلى الماديات بقدر ما أسعى إلى إثباث الذات، لكن تباريح الدهر كانت الطرف الأقوى في المعادلة.
أنا ناقم على القدر الذي أوجدني أول مرة حتى أرمى هذه الرمية اللعينة...أطرق هنيهة، جحظت عيناه كمن استعاد رشده بعد صفعة ثم أتبع قائلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. عبثا حاول التخلص من أفكاره، رفع رأسه محملقا في السماء التي شربت ضوء الأصيل القرمزي ليسكب القمر نورا لطيفا على الكون. أغمض وحيد عينيه، زفر زفرات ملتهبة، فتحهما بصعوبة، ثم عاد ليغلقهما من جديد كان قد عانقه الكرى فأسلم إليه نفسه، تمدد على الأرض كجثة هامدة بعد أن تناهشته الأفكار و تاه في مسارحها، لتقذف به في عالم الأحلام تحرسه لآلىء السماء، ليضرب في الغد موعدا جديدا مع الشقاء
ضوضاء جلجلت المكان لتفقد الطبيعة هيبتها. أصوات أطفال يتدافعون من باب بناية متصدعة، أجساد طرية وشم الفقر صفحاتها، وجوه وديعة أنهكها البؤس، كانت ملابسهم ذات ألوان فاقعة تثير في النفس رغبة في التقيؤ حملوا على ظهورهم كتبا احتوتها أكياس بلاستيكية أو محفظات ممزقة، نافثين في الهواء كلمات بربرية أشبه بطلاسم يعبث بها الريح لتتلاشى فى الأفق، أجساد آدمية تهرول كأنها حملان تلتمس النجاة من شبح الضياع بالعثور على أمهاتها.
الأصوات أخدت تخفت إلى أن عم صمت رهيب بتر حبال الضجة...جبال تتراءى على مرمى البصر شاقة عباب السماء،كأنها أمواج يم نالت منه لعنة الآلهة لتستحيل مياهه إلى صخور صلصالية ناتئة.
في خضم هذا الصمت، حمل النسيم وقع أقدام خافت ليكشف عن شبح آدمي يسير الهويناء، خرج من حيث خرج الأطفال، توقف عن السير ، التهم المكان بعينيه الحادتين، تنهد ثم جلس مفترشا التراب و ملتحفا ضفائر الأصيل الصهباء، أرهف السمع فإذا به يسمع سمفونية أبدعتها الجبال بمداعبتها لذرات النسيم. أخدت الأفكار و الذكريات تتدافع في رأسه فارضة نفسها عليه بإلحاح، فأطلق العنان لذاكرته ...
...فسمع ضحكات عذبة لرضيع وديع انصهر الورد ليسكب علي وجنتيه الناعمتين لونا زهريا أخادا ، رضيع شع النور من صفحات وجهه لينير مهده القطني الأثير ، مولود تعالت ضحكاته بمداعبته للملا ئكة ، إنه هو...إنه وحيد عندما كان رضيعا...صدقت ذاك أنا دائما وحيد حتى عندما كنت طافحا بالسعادة في تلك اللحظة كان يخامرني شعور بالوحدة. مرت سنوات استحالت معها صورتي إلى تلميذ مجد يصارع لإثباث نفسه أمام نفسه.
ما زلت أذكر نظرات زملائي في الصف و أنا أتصدر لائحة المتفوقين، حينها كنت أرشق بنظرات شزراء تخترقني تفتت جسدي إلى ذرات تتيه في اللامحدود... توالت السنوات لتتوالى فيها نجاحاتي و لتزداد فيها ثقتي بنفسي، الثقة التي افتقدتها منذ أمد بعيد في هذا المكان و أمام هذه الجبال الساخرة، اعتدت التفوق لينتهي بي الأمر هنا كمدرس في هذه المدرسة الشبح...هه... مدرسة النور
اسم دون مسمى، إنها أقرب ما تكون إلى بيت من بيوتات فلسطين نفث القذرون صنوفا من سمومهم عليه ليصير رسما لا تحجه إلا الأطياف، نوافذ مكسرة، أبواب منزوعة، جدران متداعية، و طلاء أظمأه الدهر ليصير شاحبا يتمنى الإنعتاق، آه يا مدرسة النور لم أرى كل هذه العيوب قبل عشر سنوات، أذكر كيف رأيتك أول مرة، كما أذكر كيف اتخدت أحد القسمين اللذين يكونانك مسكنا يقاسمني أفراح الدهر وتباريح المعاناة، و ها أنا اليوم أرمقك ولا أتبين غير السواد
يقولون أني مدرس...هه.. يا للسخافة...مدرس ؟ مدرس ماذا ؟ و أدرس من؟ تلاميذ يعدون على رؤوس الأصابع، لا أراهم إلا كما ترى أرض الجليد الشمس، روائحهم تزكم الأنوف... في هذا المكان أعيش خارج المدنية، خارج الحضارة،وكأنني في عصور ماقبل التاريخ، لم تخدش هنا الطبيعة إلا من هذا الشيء الذي يسمونه مدرسة و من هذه القرية القابعة على سفح هذه الجبال.
بيوتات طينية مبعثرة كأنها شظايا جرة مهشمة، كنت أطمح لأفضل من هذا لكن ما عساي أصنع ؟
أصفاد الحاجة والإلحاح جعلتني عبدا لهذا المكان، لهذه المهنة ولهذا البؤس، لطالما رغبت في إتمام دراستي بالجامعة لكنني على الدوام كنت أصدم برغبات أنانية...فتح لخوتك الباب، براكة عليك من القراية، مالين الكلية طفروه... ياك قراو حتى ولا فيهم الشيب لزرق وراهم تيدورو فزناقي...
نعم فتحت عيناي على مجتمع نهشت البطالة أوصاله حتى صار ينظر للمعلم كوزير ، أنا لا أسعى إلى الماديات بقدر ما أسعى إلى إثباث الذات، لكن تباريح الدهر كانت الطرف الأقوى في المعادلة.
أنا ناقم على القدر الذي أوجدني أول مرة حتى أرمى هذه الرمية اللعينة...أطرق هنيهة، جحظت عيناه كمن استعاد رشده بعد صفعة ثم أتبع قائلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. عبثا حاول التخلص من أفكاره، رفع رأسه محملقا في السماء التي شربت ضوء الأصيل القرمزي ليسكب القمر نورا لطيفا على الكون. أغمض وحيد عينيه، زفر زفرات ملتهبة، فتحهما بصعوبة، ثم عاد ليغلقهما من جديد كان قد عانقه الكرى فأسلم إليه نفسه، تمدد على الأرض كجثة هامدة بعد أن تناهشته الأفكار و تاه في مسارحها، لتقذف به في عالم الأحلام تحرسه لآلىء السماء، ليضرب في الغد موعدا جديدا مع الشقاء